تشارك

تعود منار أبوظبي 2025 في دورتها الثانية برؤية أكثر تركيزًا وعمقًا، حيث تتخلى عن الاتساع الجغرافي لصالح تأمل أكثر دقة في معنى الضوء بوصفه وسيطًا فكريًا وثقافيًا، لا مجرد عنصر بصري. يستمر المعرض حتى 4 يناير 2025، ويقدم تجربة فنية عامة تتقاطع فيها الذاكرة، والطبيعة، والبيئة العمرانية.

يحمل المعرض عنوان «بوصلة الضوء»، وينتشر عبر موقعين رئيسيين: ميناء زايد التاريخي، وواحات العين وجزيرة الجبيل. ومن خلال هذه المواقع، يتحول الضوء إلى أداة إرشاد رمزية، تفتح مسارات متعددة لفهم المكان، لا اتجاهًا واحدًا ثابتًا.

ميناء زايد: الضوء كعتبة

لطالما كان ميناء زايد بوابة أبوظبي الأولى إلى العالم، ومكانًا لعبور الناس والبضائع والأفكار. واليوم، ومع تحوله إلى فضاء ثقافي، يصبح نقطة انطلاق مناسبة لدورة منار الثانية، حيث يعمل الضوء كجسر بين الماضي والحاضر.

يبرز في الميناء عمل KAWS: HOLIDAY أبوظبي (2025)، وهو تركيب ضخم لشخصية مستلقية تحمل قمرًا مضيئًا. يجمع العمل بين البساطة والرهبة، ويستحضر القمر كرمز إنساني قديم للتوجيه والقياس والزمن. ويرى المدير الفني خاي هوري في القمر «أول مصدر ضوء عالمي» ومرشدًا حضاريًا عبر البر والبحر.

رغم ضخامته، يدعو العمل إلى السكون والتأمل، ويذكرنا بأن الضوء لطالما كان أداة للتنقل، لا للاستعراض فقط.

واحات العين: الضوء كاستمرارية

في واحات الجيمي والقطارة بمدينة العين، يدخل المعرض في حوار أكثر حميمية مع التاريخ والطبيعة. فهذه البيئات، التي تشكلت عبر قرون من الزراعة وأنظمة الري، تتطلب تدخلًا فنيًا شديد الحساسية.

عند مدخل سوق القطارة، يقدم خالد شفار عمله سجاد السدو الأحمر (2025)، حيث يرسم مسارًا مضيئًا يخترق حصنًا يعود إلى القرن السابع عشر. يستلهم العمل زخارف السدو التقليدية، ويحوّل النسيج إلى لغة ضوئية تحفظ التراث وتعيد تقديمه.

على مقربة، يملأ رافاييل لوزانو-هيمر الفضاء بعمله مظلة النبض (2025)، حيث تتزامن الأضواء مع نبضات قلوب الزوار، لتصبح الواحة سجلًا حيًا للحضور الإنساني. ويتوقف العمل احترامًا لأوقات الأذان، في انسجام مع الإيقاعات اليومية للمكان.

وفي منحى أكثر تأملًا، يقدم عمار العطار عمله دورة الدوائر (2025)، مستخدمًا الضوء والتصوير لاستكشاف الذاكرة والظل والانكشاف، مؤكدًا أن الضوء ليس فقط ما نراه، بل ما يختفي خلفه.

جزيرة الجبيل: الضوء كاحتمال

تمثل جزيرة الجبيل الجانب التجريبي للمعرض. فهي مساحة مفتوحة تسمح للفنانين بالتعامل مع الضوء بحرية أكبر. تقدم مجموعة DRIFT عروضًا ضوئية باستخدام الطائرات المسيّرة، بينما يخلق لاشلان تورزان في عمله الحجاب الأول (2025) سرابًا ضوئيًا من الليزر والضباب، يستحضر طرق الملاحة القديمة.

لكن أكثر الأعمال تأثيرًا بهدوئه هو عمل شيخة المزروع الجسم الاحتمالي (2025). إذ تخلق الفنانة حقلًا من مياه البحر المشبعة بالملح والكائنات الدقيقة، يتغير لونه تدريجيًا بفعل الحرارة والرياح. تحيط به حلقة ضوئية رفيعة، تمنحه حضور قمر منخفض فوق الأرض. هنا، ينبثق الضوء من البيئة نفسها، لا بوصفه تدخلًا، بل نتيجة طبيعية.

الضوء كمسؤولية

ما يميز منار أبوظبي 2025 هو الاقتصاد في الإبهار، والاهتمام بالأثر. فالضوء لا يُستخدم لفرض معنى، بل لفتح أسئلة: ماذا يحدث عندما يلتقي الضوء بالإنسان، والماء، والطبيعة؟

بهذا النهج، يقدم المعرض تصورًا ناضجًا للفن العام في المنطقة—تصورًا يقوم على الوعي البيئي، واحترام الذاكرة، وإشراك الجمهور. فالضوء هنا ليس إجابة نهائية، بل بوصلة متحركة، تقودنا بين الماضي والحاضر، نحو احتمالات المستقبل.