تشارك

مقدمة: نسيج يتنفس الذاكرة

في عالم يمزج بين الذاكرة الجماعية والجراح الفردية، تقف الفنانة الفلسطينية دينا نازمي خورشيد عند مفترق طرق فريد؛ حيث تتحول الطبيعة إلى شهادة، والمنسوجات إلى مساحات للتذكّر، والماء إلى مرآة بين الماضي والحاضر. من خلال ممارستها الفنية، تستكشف خورشيد العلاقة المعقدة بين الأرض والانتماء والحنين، بينما تعمل الأنسجة كجسد ثانوي يحمل آثار الفقد والبحث عن جذور لم تُعاش يومًا.

الطبيعة كشاهد على الخسارة والنجاة

لا تتعامل دينا مع الطبيعة كحضور جمالي فقط، بل كـ كيان يتألم ويشفى معنا. في أعمالها تظهر الأشجار بوصفها أرواحًا صامتة، والمياه كقوة تجمع بين الطمأنينة والتهديد، فيما يصبح الدخان والغبار رموزًا للصدمة والانفجار والنجاة.

تحمل أعمالها الأخيرة، مثل «اللون الذي أكرهه أكثر هو الركام والدخان»، أثرين متداخلين: أثر انفجار بيروت الذي عاشته، وأثر صور الدمار الممتدة من غزة إلى العالم. الألوان الداكنة والأقمشة الممزقة تُحاكي ذاكرة لا تهدأ، تعود كلما عاد اللون والضوء.

حضور الأشجار: بين الجذور والظلال

في سلسلة Land, Untitled، تُعيد خورشيد تقديم الأشجار ككائنات متحولة بين اليابسة والماء.
إنها أشجار مغمورة، نصف ثابتة ونصف سائرة، تبحث عن اتزان في عالم ينهار من تحتها. هذا الانجذاب إلى الأشجار يعكس علاقة الفنانة بمفهوم الثبات في مواجهة الاختفاء.

الشجرة بالنسبة لها ليست مجرد نبات؛ إنها استعارة للحياة تحت الضغط: جذر ثابت، ظل مهتز، وذكريات معلّقة بين السطح والقاع.

الماء: أرشيف للذاكرة المتحركة

يتكرر حضور الماء في أعمال دينا — سواء باعتباره مساحة للهدوء أو رمزًا للهجرة والرحيل.
تصف الماء كبيت مؤقت، يهدّئ ويُغرِق، يطهّر ويمحو في آن واحد.

في عملها Estuary، يبدو الماء كحدّ فاصل بين عالمين: ماء مالح وآخر عذب، حياة قديمة وأخرى جديدة، ذكرى تتلاشى وأخرى تعود. هذه الحدود المائعة تُجسّد رغبة الفلسطينيين في العبور إلى التحرر، وفي استعادة ما انقطع من التاريخ والبيت والجغرافيا.

أعمال النسيج: الذاكرة التي يمكن حملها

تستخدم دينا النسيج كوسيط يختزن اللمس والدفء والغياب. فالمنسوجات تحمل قصص العائلات المهجّرة، وتُذكّر بأن أكثر الأشياء قيمة هي تلك التي يمكن طيّها وحملها عبر الحدود.
كما ترى في القماش امتدادًا للجسد — مادة تحيط بالبشر وتحميهم، وفي الوقت ذاته تحفظ آثارهم.

في بعض أعمالها تُخفي طبقات نسيج فوق أخرى، كأنها تُعيد تأليف ذاكرة قديمة تحت سطور جديدة. إن خياطة نسيج على ظهر آخر ليست تقنية فحسب، بل اعتراف بوجود طبقات غير مرئية من التاريخ.

العمل مع الفقد: استعادة ما كان غائبًا

مشاركتها في معرض The Lost Paintings أطلقت لديها حوارًا عميقًا مع فكرة الاختفاء.
استجابت دينا للوحات فقدها الفنان الفلسطيني-اللبناني مارون طوم عام 1947، وكأنها تستعيد من خلال عمله حكاية الفقد التي عاشتها عائلتها.

اختارت عنوان «تحت شجرة السنديان» لتتكئ عليه في بحثها الرمزي. قضت وقتًا تحت الأشجار، تجمع ثمار البلوط وتتأمل دلالاتها. السنديان هنا يصبح حارسًا للذاكرة، وشاهدًا على ما لم يعد موجودًا.

ما هو «الوطن»؟ سؤال يبحث عن إجابة

بالنسبة لدينا، الوطن ليس مكانًا يمكن العودة إليه. إنه شعور، ورائحة، ولغة، واحتضان أصدقاء.
هي فلسطينية لم ترَ فلسطين، ولبنانية السكن، وإماراتية النشأة، وتعيش آثار فقد منزلين بسبب الحرب والانفجار.

هويتها تسكن في:

  • المتاحف

  • الورق

  • خيوط القماش

  • دفء العائلة

  • لحظات الأمان المؤقت

الوطن بالنسبة لها ليس ثابتًا، بل يتشكل ويُفقد ويُعاد بناؤه باستمرار.

نحو أفق جديد: نسيج كمساحة للتأمل

تركّز دينا اليوم على نسج أعمال أبطأ وأكثر تأملًا، تعيد عبرها التفكير باللون والمادة والزمن.
النسيج، بكل ما يحمله من إيقاع تكراري، يمنحها مساحة للتنفس، ومساحة لتعيد ترتيب ذاكرتها وواقعها.

إنها رحلة فنية تتجه نحو سؤال واحد:
كيف يمكن للأقمشة أن تُعيد بناء مكان لا وجود له؟