مقدمة: عندما يتقاطع المحلي مع الكوني
على الرغم من أن المشهد الفني العُماني لا يحظى بالضوضاء الإعلامية التي ترافق الساحة الفنية في دول خليجية أخرى، إلا أنّ هدوءه يخفي بداخله طاقة إبداعية فريدة. فبين جدران الاستوديوهات الصغيرة وقاعات العرض القليلة في مسقط، يتكشف عالم بصري غني، يحمل روح المكان وفي الوقت ذاته يتردد صداه مع رموز وإيحاءات تُشبه أعمالًا عالمية لم يسمع بها الفنانون العُمانيون أنفسهم.
هنا يبدأ السؤال الكبير: كيف يمكن لإبداع محلي نشأ بعيدًا عن المدارس الفنية الغربية أن يتلامس بشكل عفوي مع أعمال فنانين عالميين؟
الفنانون الشباب في عُمان: رؤى غير مُكتشفة
شهدت السنوات الأخيرة بروز عدد من الفنانين العُمانيين الذين يعتمدون على الحدس، الذاكرة، التاريخ المحلي، والتجربة الذاتية. ورغم انغماسهم في تفاصيل ثقافتهم، إلا أنّ أعمالهم تحمل لغة رمزية أعمق، تتجاوز حدود المكان والزمان.
-
فهناك من يرسم وجوهًا معكوسة وأجسادًا متعددة الطبقات توحي بصراع الهوية، بطريقة تُذكّر بأفلام إنغمار بيرغمان.
-
وهناك من يغوص في عمق التراث العُماني، منتجًا مخلوقات وعوالم غريبة تشبه لوحات هيرونيموس بوش.
-
وهناك من يصوّر نساءً يطفن في فضاءات لا وزنية، بألوان حالمة تُحاكي عوالم مارك شاغال أو زخارف غوستاف كليمت.
والمثير أنّ معظم هؤلاء الفنانين لم يطّلعوا على مرجعياتهم الغربية المفترضة — ما يجعل تشابهاتهم أقرب إلى تلاقٍ غير واعٍ لا إلى تأثير مباشر.
اللاوعي الجمعي: جسر يربط بين مسقط والعالم
يُعيدنا هذا التوازي غير المقصود إلى نظرية كارل يونغ حول اللاوعي الجمعي؛ هذا الخزان العميق الذي يشترك فيه البشر جميعًا، ويحتوي على رموز وصور أولية تتكرر عبر الحضارات.
وفقًا ليونغ، هناك لغة داخلية مشتركة:
-
رموز للمرأة
-
رموز للظل
-
رموز للأمومة
-
رموز للتحول
-
رموز للبحر، السماء، الروح، الذاكرة
وعندما يعمل الفنانون من وحي مشاهداتهم الداخلية، قد يلتقون — دون أن يقصدوا — مع فنانين من ثقافات أخرى، لأن الجذور النفسية واحدة.
في عُمان، يبدو هذا الارتباط أكثر وضوحًا لأن الفنان يعمل من بيئة أقل تشبعًا بالمدارس الفنية الغربية. وهنا يصبح التشابه دليلًا على لغة إنسانية مشتركة، لا على تأثر أو استعارة.
أمثلة حيّة من المشهد العُماني
1. إسحاق أو عيسى النـياري: الوجوه التي تشبه سينما بيرغمان
وجوه بالأبيض والأسود، انعكاسات مرآوية، نظرات متوترة…
كل هذا يُشبه المشاهد السينمائية التي تعبّر عن صراع الهوية في أعمال بيرغمان. ورغم ذلك لم يعرف الفنان أفلامه يومًا.
إنها لغة بصرية تظهر عندما يتداخل الخوف، الذات، والمرآة — رموز عالمية يعرفها كل إنسان.
2. رقية مزار: الحكايات التي تعيد إحياء الأسطورة
ترسم مخلوقات غريبة، أسماكًا طافية، وجوهًا ظلالية.
تراث عُماني حيّ، لكنه في الوقت ذاته قريب جدًا من عالم بوش، حيث تلتقي الحكاية بالرمز والهذيان البصري.
رسوماتها تُعامل السمكة مثل فكرة تتحرر في الفضاء — رمز عالمي للتحول والانعتاق.
3. حفصة التميمي: المرأة العائمة والذاكرة اللونية
تُجسد النساء بشكل روحي، كأنهن يسبحن بين الضوء والهواء.
أعمالها تشبه عاطفيًا لوحات شاغال، وتذكّر تلويناتها بثراء كليمت، رغم أنها لم تدرس أيًّا منهم.
وهنا يظهر رمز الأم، رمز الحب الأحمر، رمز الحماية — كلّها رموز أولية في الذاكرة الإنسانية.
لماذا يبدو هذا الارتباط مهمًا اليوم؟
لأنّه يثبت أنّ:
-
الفن ليس نتاج ثقافة واحدة
-
الإبداع ليس محصورًا في المدارس الغربية أو الشرقية
-
هناك جذور رمزية واحدة يشترك فيها البشر
-
الفنان العُماني يمتلك صوتًا عالميًا حتى لو بدا محليًا
-
المشهد الفني في عُمان يستحق مساحة أكبر في النقاش الثقافي العالمي
الفن، كما يبدو، لا ينتمي لجغرافيا محددة؛ بل ينبع من نفس إنسانية مشتركة، ومن قدرة الإنسان على رؤية ما هو أبعد من محيطه المباشر.
خاتمة: الخيط الذي يصل بين القلوب
ما نشهده في الفن العُماني ليس صدفة.
إنه لقاء بين المحلي والكوني.
بين الذاكرة الفردية والرمز الجماعي.
بين الماضي العُماني الطويل — بما يحمله من قصور وحكايات وموروث — وبين اللاوعي العالمي الذي يملك نفس الصور لدى الإنسان أينما وُجد.
وهكذا يصبح الفن العُماني جزءًا من نسيج عالمي واحد، يتردد صداه من مسقط إلى أوروبا وإلى كل مكان تُقام فيه حوارات الفن.
