تشارك

في مدينة تعيش على إيقاع التحولات والقلق والمتغيرات المستمرة، يأتي معرض "الاحتراق البطيء" في مركز بيروت للفن ليجسّد الطاقة الصامتة التي تغلي تحت سطح المشهد الفني اللبناني. يمتد المعرض من 13 نوفمبر 2025 إلى 28 فبراير 2026، وقد انطلق من دعوة مفتوحة للفنانين الناشئين في لبنان والمنطقة لاستكشاف مفهوم النار — ليس كعنصر فحسب، بل كاستعارة للتحول وانعدام الاستقرار والقوة الكامنة.

لكن ما بدأ كتساؤل حول “النار” سرعان ما تحوّل إلى رحلة أكثر حميمية تقوم على العملية الفنية نفسها. ففي ظل الأزمات المستمرة التي يعيشها لبنان، واجه الفنانون صعوبة في تثبيت أعمالهم أو تحديد شكل نهائي لها. كانت أفكارهم تتغيّر يومياً، وتتأثر بالواقع المتقلب من حولهم.

استجابةً لذلك، اتخذ مركز بيروت للفن قراراً جريئاً:
أن يصبح التركيز على مسار الإنتاج الفني لا على العمل المكتمل.

استوديوهات حيّة ومساحات تتغيّر باستمرار

نقل تسعة فنانين استوديوهاتهم إلى داخل المركز، ليتحوّل المكان إلى مختبر مفتوح للتجريب. وقبل افتتاح المعرض، كان الزوار يشاهدون خطوات العمل لحظة بلحظة: تجارب المواد، النقاشات بين الفنانين، المسودات الأولى، والقرارات التي تتبدل تدريجياً. أما الفنانون الذين عملوا عن بُعد، فحافظوا على تواصل دائم يضمن استمرار مشاركتهم في هذا المسار الجماعي.

بهذا الشكل، كشف المعرض جانباً نادراً من العمل الفني: الهشاشة، التردد، الفوضى، واللحظات التي تسبق التكوين النهائي. أصبح المركز مكاناً للتفاوض بين المادة والفكرة، بين ما هو متوقع وما يفرضه الواقع، بين الفوضى ومحاولة السيطرة عليها.

ليس عن النار… لكنه مشبع بحضورها

على الرغم من أن الفكرة الأساسية تدور حول النار، إلا أن المعرض يتجاوز اللهب ليصل إلى لحظات ما بين الاحتراق — الحرارة الخفية قبل الانفجار، التوتر بين الدمار والانبعاث، والقوى غير المرئية التي تشكل الذاكرة والمواد والمعاني.

في الطابق الأرضي، تتجلى علاقة العنف بتمثيله، حيث تُستخدم مواد كثيفة ومظلمة لتجسيد التوتر الكامن قبل انفجار الأحداث.

أما الطابق العلوي، فيتحول إلى مساحة للحداد والتأمل والممارسات الفنية البطيئة التي تعتمد على اللمس، الخياطة، التجميع، وإعادة البناء. هنا يتحرك الحزن كحرارة خفيفة تعيد تشكيل الإنسان تدريجياً دون صخب.

قوة الاحتراق البطيء

الاحتراق البطيء ليس نقيض اللهب المتوهج، بل هو نوع آخر من النار:
هادئ، عنيد، مستمر.
يمتلك القدرة على التحول دون انهيار، وعلى البقاء ساخناً رغم العواصف.

يمثّل هذا المفهوم في المعرض:

  • الصمود تحت الضغط

  • الطاقة الكامنة التي لم تتحول بعد إلى لهب

  • التحول الهادئ والبطيء

  • القدرة على البقاء مائعاً وقابلاً للتشكل

الأعمال المعروضة غير مكتملة — لكنها نابضة بالحياة. إنها انعكاس لحالة جماعية من “التشكّل”، ومحاولة للتقدم رغم اللايقين.

شرارة لبداية جديدة

لا يقدم معرض "الاحتراق البطيء" أعمالاً نهائية، بل يفتح الباب أمام الجمهور ليشهد ولادة لغة فنية جديدة في بيروت. إنه مساحة مشحونة حيث يصبح الصمت فعلاً، والانتظار معنى، والعملية الفنية نفسها شكلاً من أشكال المقاومة.

في منطقة اعتادت على الحرائق المفاجئة، يحتفي هذا المعرض بالقوة الهادئة للنار البطيئة — النار التي تعيد تشكيل الأرض عبر الزمن وتفتح دروباً جديدة للتعبير.