في الجنوب التونسي، حيث يلتقي البحر بالصحراء وتتعانق ظلال النخيل مع نسيم الساحل، تمتدّ واحة قابس؛ الواحة البحرية الوحيدة في العالم. ولكن هذا المكان الفريد يعيش اليوم أزمة بيئية وثقافية عميقة، فرضتها عقود من التلوّث الصناعي والتهميش. وسط هذا المشهد المهدد بالاندثار، يبرز الفنان محمد أمين حمودة كصوت مقاوم يحاول إعادة وصل الإنسان بالأرض عبر الفن والمعرفة التقليدية.
عودة إلى الجذور
نشأ حمودة في قابس، قبل أن يعود إليها أستاذًا وفنانًا باحثًا. ومع السنوات، بدأ يعي حجم التراث الذي تختزنه الواحة: أصوات الأسواق القديمة، النباتات العطرية، الحرف اليدوية، والذاكرة المتوارثة عبر الأجيال. كان سوق الحنّة أحد الأماكن التي شكّلت طفولته، وهناك بدأ يسأل نفسه:
هل يمكن للفن أن يلتقط روح هذا المكان؟
انطلق في تجارب صباغية تعتمد على ما تمنحه الأرض: قشور الرمان، الحنّة، النباتات البرّية، والمولبيري الذي كان أسلاف قابس يستخرجون من أوراقه خيوط الحرير. هذه الاكتشافات لم تمنحه فقط ألوانًا طبيعية، بل أعادت إليه تاريخًا كان يُنسى.
الفن كأداة مقاومة
شيئًا فشيئًا، تطوّرت تجربته نحو صناعة الورق من الألياف النباتية، ثم إلى النسيج والمنحوتات المصنوعة بالكامل من بقايا النخيل ومخلفات المزارع. تعاون مع الحرفيين والفلاحين ليحوّل “المهمل” إلى مادة حية تُجسّد صمود الواحة.
في أعمال مثل نار وجمّار، يصنع حمودة تراكيب ضخمة من ألياف النخيل والحلفاء والقصب، ليعيد الاعتبار لأشجار النخيل التي فقدت آلافًا منها بسبب التلوث والتمدّد الصناعي.
جراح بيئية… وذاكرة استعمارية
لا يكتفي حمودة بتسجيل الجمال؛ بل يواجه حقيقة مرّة:
المصنع الكيميائي المقام منذ السبعينيات، الذي أُنشئ لخدمة مصالح اقتصادية خارجية، ترك آثارًا كارثية على البحر، الهواء، التربة والإنسان.
نسب الأمراض ارتفعت، الحياة الزراعية تراجعت، والصيد تضرّر، بينما تغيّرت حتى علاقة سكان قابس ببيئتهم وهويتهم.
يعتبر حمودة أن هذه الأزمة ليست بيئية فقط، بل هي استمرار لموقف استعماري تجاه الأرض وسكانها. لذلك، يرى أن الحل يبدأ من استعادة المعرفة المحلية وإعادة كتابة تاريخ الواحة بأيدي أبنائها.
خرائط الواحة… من أجل ذاكرة جديدة
في سلسلته خرائط الواحة، يستخدم ورقًا مصنوعًا يدويًا وأصباغًا نباتية ليقدّم رؤية جوية للواحة. ألوان جافة، خطوط حادة، وملمس خشن يعبّر عن التناقض بين الفردوس الأخضر و“الجحيم الصناعي” المحيط به.
هذه الأعمال ليست خرائط جغرافية، بل خرائط هوية.
رسالة إلى المستقبل
يسعى حمودة إلى أن يرى الناس قابس كما يراها هو: مكانًا غنيًا بالتاريخ، بالجمال، وباحتمالات الحياة.
ورغم ضيق الأفق الذي يدفع الكثير من الشباب إلى الهجرة، يؤمن بأن الفن قادر على إحياء الإحساس بالانتماء، وإعادة الاعتبار لواحة لا تستحق أن تُترك خلف الغبار والدخان.
في نهاية المطاف، لا يحاول حمودة توثيق مأساة فقط، بل يدعو إلى استعادة جنّة تحتضر… قبل أن تختفي.
