تشارك

تقدّم الفنانة المصرية أمينة يحيى في معرضها الفردي الجديد "ينادونني مقدّسة" داخل معرض حنّة للفنون بالكويت قراءة عميقة للأنظمة التي تحكم الحياة اليومية في مصر المعاصرة — من تأثيراتها على المشهد العمراني إلى انعكاساتها على النفس والجسد. العنوان نفسه يأتي كجملة مترددة، بين التبجيل والاتهام، وكأن صوتًا خافتًا يهمس به. قد يفترض المتلقي أن النساء الحاضرات في اللوحات هنّ صاحبات هذا اللقب، وهنّ يتحركن بين الحزن، الصبر، والضغط الاجتماعي.

لكن البطل الحقيقي في المعرض غير مرئي: القاهرة. فالمدينة لا تظهر مباشرة، بل كأثر، كهواء، كطبقة من المزاج. نشأت يحيى في القاهرة وشهدت كيف تجسدت التحولات السياسية والاجتماعية في المؤسسات العامة والبنية المنزلية وحتى في أبسط تفاعلات الناس. هذه التراكمات، كما تقول، صنعت حقلًا من الحزن الجمعي — إرهاق مدينة عالقة بين وعود ثورية لم تكتمل وأنظمة استعمارية وأبوية وطبقية ما تزال قائمة.

لوحاتها تخرج من قلب هذا الإرهاق، موثّقة ضغط الإهمال المؤسسي والجهد النفسي للبقاء.

طقوس من أجل البقاء

في لوحة "هل تستطيع التنفس؟" (2025)، تجسّد يحيى ما تصفه بـ"أشكال التعذيب البطيئة المختبئة في البيروقراطية وحدود الحياة اليومية". يظهر في العمل رجل ممدد على حضن امرأة تخيط رئتَيْه بيديها. الحركة تبدو حنونة وطبية في آن، بينما جسده مستسلم في ضباب من الألوان الترابية التي تذكّر بالغبار والصحراء. يتردد في هذا الفعل الإيقاعي شعور طقسي، يُحاكي سلاسل التكيّف التي أصبحت جزءًا من الحياة الطبيعية رغم قسوتها.

تقول يحيى إن في هذا التكرار شيئًا "روحيًا، أشبه بقبولٍ دوريّ يلامس حدود الطقس".

وتتكرر هذه الحالة في باقي الأعمال؛ فالشخصيات معلقة بين تحولات غير مكتملة، والمساحات تتلاشى من حولها، في لوحات تستحضر روح الانطباعية في تركيزها على الإحساس بدلًا من المشهد الثابت. أجساد أبطالها تحمل أثر الأنظمة التي تشكل حياتهم — وفي النهاية، مصائرهم.

النساء بوصفهن حوامل الأعباء

تشير القيّمة ألكسندرا ستوك إلى تركيز يحيى الواضح على حياة النساء، واصفة إياهن بأنهن "اللواتي يحملن الوزن التراكمي للتوقعات الاجتماعية". في لوحة "أخبري أمي" (2025)، تظهر مجموعة من الفتيات في عمر العاشرة تقريبًا، حوامل، بوجوه خالية ونغمات رمادية هادئة. العمل تعليق مباشر على مشكلة زواج القاصرات المنتشرة في الأوساط الفقيرة والريفية في مصر. هنا يتحول الزواج — بوصفه مؤسسة ‘مقدسة’ — إلى فرض اجتماعي يمزّق المسافة بين الطفولة والأمومة. بالنسبة ليحيى، يصبح هذا الطقس أشبه بمرض وراثي يتناقله المجتمع.

العنوان نفسه هو مطالبة بالمساءلة.

الجنون المنسوب للنساء ودورة الألم المتوارث

لوحة "عبق II" (2025) تتابع هذا البحث داخل المجالين المنزلي والطبي، وتركّز على كيفية نسب ‘الجنون’ للنساء عندما يحتجن دعمًا نفسيًا. تظهر امرأة معلّقة في حالة انتقالية — إما صاعدة أو هابطة — بينما يشاهدها طفل بقلق. تلك اللحظة تفتح حلقة بين جيلين، حيث يتحول الفشل في حماية امرأة واحدة إلى نموذج يتكرر لاحقًا.

الغراب: شاهد ورسول

يظهر الغراب كشخصية متكررة في المعرض، بعد تعليق عابر من والدة الفنانة حول الأخلاق واللوم. في الثقافة الشعبية المصرية، يُنظر إلى الغراب باعتباره كائنًا ذكيًا يرتبط بقصص دينية، لكنه أيضًا نذير شؤم. في لوحة "أخبري أمي" يراقب المشهد بصمت، بينما في "يا غراب، أنت زعلان مني؟" (2025) يظهر ثلاث مرات خلف طفلة صغيرة، كرسول يحمّل إرثًا من القوانين الأخلاقية، الضغوط غير المنطوقة، والجهات الخفية التي تشكل السلوك البشري.

هذه الازدواجية مفتاح فهم عنوان المعرض. فـ"المقدس" هنا ليس بعديًا أو سماويًا، بل هو ما يُستخدم لتبرير السيطرة وتطبيع الفقد. وهناك أيضًا قداسة أخرى، هامسة وبسيطة، تنشأ من أفعال الرعاية اليومية التي يقدمها أشخاص لا يملكون القدرة على تغيير الأنظمة من حولهم.

تقف لوحات يحيى عند نقطة التقاء هاتين المقدستين: الرسمية المفروضة، والشخصية التي تنبع من الصمود. وفي النهاية، يشير المعرض إلى أن القداسة تكمن في القدرة على التحمل — في استمرار الحياة رغم هشاشة العالم.

يمتد معرض "ينادونني مقدّسة" حتى 3 ديسمبر.