في لوحة عثمان حمدي بك المبهرة الأمير الشاب يقرأ، يتربع شاب في ثوب أخضر لامع على سجادة مزخرفة، يعلو رأسه عمامة صفراء تتوهج بضوء خافت. ينحني نحو كتابه، مستغرقاً تماماً في القراءة. تساند يده ذقنه في تركيز هادئ، بينما تتتبع أصابع يده الأخرى أسطر اللغة العثمانية المكتوبة بحروف عربية – حركة حميمية يعرفها كل من ذاق متعة الغوص في كتاب.
لا توثّق اللوحة لحظة قراءة فحسب، بل تسجّل لحظة اختيار. فالأمير، رغم الرفاه والترف الذي يحيط بحياته، يختار المعرفة على المتعة، والهدوء على الضوضاء. يصنع لنفسه ملاذاً صغيراً، ركنًا يبتعد فيه عن صخب الحياة ليقرأ ويتأمل.
وهنا ينبثق التساؤل: لو عاش هذا الأمير في عام 2025، هل كان سيختار كتاباً حقاً؟ أم أنّ هاتفاً ذكياً كان سيجذبه بإغراءاته التي لا تنتهي؟ هل كان سيقرأ في التاريخ والفلسفة والعلوم؟ أم كان سيغرق في دوامة المقاطع القصيرة والمنشورات السريعة؟
يدفعنا هذا التأمل إلى مراجعة علاقتنا نحن بالقراءة. فقد فتح العالم الرقمي أمامنا أبواب المعرفة على مصراعيها، لكنه في الوقت نفسه يغمرنا بمحتوى سريع ومتشظٍ يستهلك الانتباه ويبدد التركيز. وللبعض، كان الإنترنت نافذة أمل – كما حدث مع الفتيات في أفغانستان اللواتي حُرمن من التعليم فاتّجهن إلى التعلم عبر الشبكة، قبل أن تُقطع عنهن لعدة أيام.
وفي الإمارات، تستمر جذور الثقافة المكتوبة في النمو. فمعرض أبوظبي الدولي للكتاب ومعرض الشارقة الدولي للكتاب، اللذان انطلقا في الثمانينيات، أصبحا منصّتين رئيسيتين للحوار الثقافي ولتبادل المعرفة. أما الشارقة، فقد حصد معرضها هذا العام وحده 1.4 مليون زائر من أكثر من 200 دولة، في مشهد يعكس شغف المنطقة بالكتاب. وانضمت دبي إلى هذه المسيرة عبر مهرجان طيران الإمارات للآداب، الذي جمع كتّاباً ومفكرين وقصصاً من مختلف أنحاء العالم.
ومع ذلك، فإن الأرقام وحدها لا تصنع ثقافة قراءة راسخة. ففي ظل سطوة الشاشات، بات كثير من الشباب العربي يجد صعوبة في الابتعاد عن موجات المحتوى الرقمي السريع الذي يخطف الانتباه بسهولة.
ولهذا أطلقت دبي عام 2015 "تحدّي القراءة العربي"، الذي ألهم ملايين الطلاب لاستعادة علاقتهم بالكتاب. ومع ذلك، تبقى القدوة الحقيقية في البيوت والمدارس؛ فالأهل والمعلمون هم من يزرعون في الأطفال حب القراءة الذي يستمر مدى الحياة.
وفي متحف اللوفر أبوظبي، يواصل الأمير الأخضر جذب الزوار. يقف الناس أمامه طويلاً، يتأملون هدوءه الذي يتحدى صخب العصر. أما النسخة الأخرى من اللوحة الموجودة في ليفربول، فرغم جمالها، فإنها تفتقد شيئاً من الدفء والعمق الذي تتميز به النسخة الإماراتية.
لقد تجاوز الأمير إطار اللوحة ليصبح رمزاً على الهدايا التذكارية والبطاقات، والأهم من ذلك، رمزاً للتأمل في عالم يسير بسرعة تفوق قدرتنا على المتابعة.
ويجسد الأمير المثل العربي القديم: "الكتاب خير جليس."
فالقراءة تعيد إلينا قدرتنا على التركيز، وتمنحنا لحظات من السكينة، وتفتح لنا أبواباً نحو عوالم جديدة تُثري عقولنا وتوسع آفاقنا.
وربما يحمل لنا الأمير الشاب رسالة بسيطة: في مواجهة الإغراءات التي تحيط بنا، يمكننا أن نتوقف قليلاً، أن نفتح كتاباً أو صحيفة أو مجلة، وأن نسمح لأنفسنا بلحظات من المعرفة الصافية. هكذا فقط نستعيد جوهر ارتباطنا العميق بالقراءة – صوت العقل وسط ضجيج العالم.
