وسط أروقة معرض الشارقة الدولي للكتاب، حيث تتلألأ الأغلفة اللامعة وتتصدر الإصدارات الجديدة المشهد، يقف ركن صغير يشبه بوابة زمنية تعيد الزائر عقودًا إلى الوراء. هنا، بين أكوام من الصفحات المصفرّة والصور القديمة والجرائد النادرة، ينبض أرشيف حيّ للتاريخ العربي. إنّه جناح مؤسسة الأرشيف العربي للتراث، الكنز المصري العائلي الذي يمتد عمره إلى 125 عامًا.
يدير الجناح اليوم محمد صادق، حارس الذاكرة الذي بدأ رحلته مع الكتب قبل أن يتقن القراءة. يقول مبتسمًا: «كان والدي يأخذني معه إلى السوق. وكان يربطني في عمود إنارة حتى لا أركض إلى الشارع». ما بدأ كتدبير أمني تحول إلى بداية شغف دائم. ففي السابعة من عمره، كان صادق جزءًا من مهنةٍ أسسها جدّه الأكبر نحو عام 1900 قرب جامع الأزهر في قلب أسواق القاهرة القديمة.
كان أجداده يُعرفون باسم الورّاقين — جامعي الورق وكل ما طُبع عليه. كتب، مجلات، صور، جرائد… مواد حفظت نبض العالم العربي على مدى قرن. ومع انتقال العائلة إلى منطقة سور الأزبكية الشهيرة، أعاد صادق تشكيل المكان ليصبح أرشيفًا منظّمًا أشبه بالمؤسسات الوطنية.
في معرض الشارقة، يتحوّل الجناح إلى رحلة تاريخية. نسخة من مجلة المصور عام 1969 تروي حادثة إحراق منبر المسجد الأقصى. وأخرى من عام 1970 تظهر ياسر عرفات شابًا بصفته «قائد الثورة الفلسطينية». وعلى جدار آخر، تتدلّى صحف نادرة تعلن وفاة جمال عبد الناصر. وفي زاوية مميزة، أرشيف غني يحكي بدايات دولة الإمارات العربية المتحدة ووثائق انضمامها إلى الجامعة العربية وأول تصريحات قادتها.
بالنسبة لصادق، هذه المهنة ليست تجارة… بل رسالة. يقول: «عندما قرأت ما قاله الشيخ سلطان في السبعينيات عن التعليم وتنمية الشارقة، رأيت أن كل ما قاله تحقق. الشارقة اليوم من أكثر المدن ثقافةً في العالم».
ورغم تطور التكنولوجيا وانتشار الذكاء الاصطناعي، يبقى صادق وفيًا للورق. «التقنية لا تعنيني»، يقول بثقة. «لو أصبح العالم يعتمد فقط على الإنترنت، سأترك العمل. لكنني أعلم أن ذلك لن يحدث. الورق له روح».
روحٌ يشعر بها كل زائر يقف أمام مقتنياته. فكل صفحة متآكلة تحمل قصة: عن الاستقلال والتحولات الاجتماعية، عن السينما وبدايات التلفزيون المصري، وعن شغف الناس بالرياضة ثم تغيّر اهتماماتهم. بالنسبة لصادق، التعامل مع هذا الأرشيف هو تجربة العيش في قرون متعددة.
«لقد مررت على كل هذه الحكايات»، يقول. «وعشت ألف عام في عمر واحد».
