تشارك

متخفّية وسط ناطحات السحاب وصخب وسط بيروت، يكمن أثرٌ رائع: حمّامات بيروت الرّومانية، التي كانت جزءاً من مدينة بيريتوس القديمة. بُنيت في القرن الأول الميلادي، وقد كانت مركزاً اجتماعياً يتدفّأ بالأرضيات الساخنة والاهتزازات الحرارية، تستقبل الناس للشفاء والتلاقي. واليوم، وبعد أن غيّبها الزمن عن الأنظار، بدأت عملية إحيائها بهدوء.

في قلب هذا التجديد، تأتي معرض التصميم من الماء والحجر – الذي أشرفت عليه المصمّمة اللبنانية نور عسيران – ليحوّل الموقع الأثري إلى معرض تحت السماء. وقد دُعي إلى المشروع 21 مصمّماً للردّ على هندسة الحمّام، وإرثه في الطهارة والطقوس، والعلاقة بين الحجر والماء والذاكرة. كانت تركيبتهم غالباً من الرخام، مادة اختيرت لقوّتها ومرونتها وقدرتها على احتجاز الذاكرة. بعض القطع نقشها المصمّمون على شكل أحواض ماء، دفّاقات المياه الساخنة، مقاعد نحتت للجلوس والتأمل، وغيرها من العناصر التي تستشعر روح المكان القديم.

ووضعت الأعمال داخل بقايا الحمّام: على الدرج الذي يقسّم الموقع، وعلى الممرّات المرتفعة فوق أعمدة الهيبوكاوست الطينية، وبين أركان الأعمدة التي كانت تدعم الأرضيات الساخنة. بهذه الطريقة، يفتح القديم باباً إلى الجديد: تتردّد أصداء الطهارة والتجمع ومن ثمّ التجديد في تلك الأجسام المنحوتة، بينما تدعونا اليوم إلى إعادة التفكير في كيف نسكن ونعتني بالمكان المشترك.

كما تمّ هذا العام إعادة فتح الطريق الرئيسي إلى الحمّامات، ما مهد للجمهور أن يمشي عبر البقايا، أن يلمّس الماضي المدمج بالحاضر، وأن يشارك في مستقبل هذا المكان. لذلك، لا يُعدّ المعرض مجرد عرض أعمال، بل دعوة للتواصل مع المكان، لاكتشاف التاريخ المدرّس، ولتخيل بيروت حيث يلتقي التصميم والتراث والمجتمع.

إنّ إحياء حمّامات بيروت الرّومانية ليس مجرد عمل أثريّ، بل هو عمل ثقافي واجتماعي ورمزيّ. فهو يشير إلى أنَّ الأطلال يمكن استعادتها ليس كآثار فحسب، بل كمساحات حيّة. وأنّ الرّخام والماء – اللذان كانا جزءاً من فخامة الماضي – يمكن أن يصبحا موادّ تجديد. وأنّ ذاكرة المدينة وطقوسها وشعبها يمكن أن تُفعّل، وليس أن تُركن للجمود.